أيتها الروح
أنت في زمن الأسطورة ولدت
بأثيرك الشفاف عشت
زمان وأزمان
أزلية الوجود أنت
منذ لحظة الخلق بدأت
في أحضان الأساطير تربّيت
برداء الوهم واللامعقول تغلّفت
وباستيهامات السلطة سيطرت
وبالسياسة تألّهت
فوق كل أنين ألم صادر
ينبع من كل صوب آت
تحكيه الأسطورة
لدى آلهة الوجود فوق الأعالي
إلَه القبح وإلَه الجمال
وإلَه الشر وإلَه الخير
احتضنتك آلهة اليونان
لتضعي خارطة الوجود
في سرمديّة متوالية
من أجل صراعات وصراعات
بين الآلهة والإنسان
والطبيعة والكوسموس
صراعات دامية بما
بما تحكيه الأسطورة
بين وهم الانتصار ووهم الانهزام
في الأسطورة أنت
أيتها الروح أنت
خلقت لك سكناً أبديّاً
فيما وراء المادة
وظواهر الطبيعة
وفوق الوجود الفاني
تتطلعين إلى الأعالي القدسيّة
جعلتك الأسطورة أنت
أيتها الروح أنت
تسيرين في خطّ مرسوم
نحو الأبدي ومظاهر الأزلي
تتجسدين كالمحتوم
في كل أشكال الوجود
تتماهين مع الهضاب والجبال
مع الوديان والأنهار
أوهمتك الأسطورة
بملكيّة الجمال وملكوت البهاء
وملكيّة الأرض والسماء
لكنك عبثاً أيتها الروح
ليس بقدرتك أن تتخلّصي
من دناسة أسفل الوجود
أيتها الروح أنت
اختلطت عندك كل الطرق
ومشيت في تقاطع سرمدي
وتهت في مسارات الوجود
تتعثرين في الكرّ والفرّ الموجود
تتأرجحين بين مدّ وجزر قاسي
تتخذين زحف الأفعى لباساً
وتعانقين جسد الشيطان عشقاً
فسمّوك روح الشيطان أسفاً
وفي غمرة اليأس تتعبدين
عبادة التقوى تلبسين
لباس الملائكة في عرسها التليد
وتتعبدين في قدسيّة الإيمان
لتتصاعدي إلى مقام الإحسان...
عبثيّة أنت
أيتها الروح أنت
متاهاتك لا تقف ولا تنتهي
في كل مرة لباس
تبهجين الناظرين به
كل ثقافات الكوسموس تقدسك...
أيتها الروح أنت
في سرمدية الأزل والسكون
وفي أزمات الكون والذبول
وفي شيخوخة الأمل المجنون
تغنين لحن الوجود
في أنين ناي يبقى سرّاً موجوداً
مستقراً في جوف الوجود
وفي دقات الطبول رنين
يتلحف وينغمس في عمق الأثير
مسكون بلحن فيه تعزفين
لحن الخلود
في حفل التمائم والتعاويذ
تصرخين
وفي طلاسم الطقوس ترقصين
وتصيحين: إلى برج الأعالي هيا
تتصاعدين
إلى محراب السماوات...
أنت في كل دهاليز الثقافات
طاقة وقوة وجبروت لا ينتهي
أنت في كل أدراج الوجود
تفكير وعلم ونور سرمدي...
في تاريخيّة الثقافات أنت
روح مطلق من الله
الخالق للإنسان والطبيعة
والكون...
أيتها الروح أنت
في فلسفة الصوفيّة وإشراقاتها
أنت كل فعل وإشارة فيه
قدسيّة كون من الأكوان
ومقام من مقامات الأزمان
كان فعلاً محموداً أو مذموماً
قدسيّة المحمود عشق الفضيلة
وقدسية المذموم هجر الرذيلة
وكلّ فيه حظّ جميل وجميل
ما ليس فيه أمر عسير وعسير
في ملكوت الإحسان تتجلّين
كقدسيّة التجليات بتاج وصولجان
وكإشراق كلّ النورانيات
في الظلمات الطاغيات
تشرقك الروح الربّانية في الأعالي
بالكمال والمحمودية في المقام
في أعلى المقامات تساوي
مقام الإحسان، إلا الإحسان
إشراق لروحك الساعية
لاتصال ارتقائيتك الدائمة
بخالق الوجود ...
في قدّاس الصوفية أنت
أيتها الروح أنت
تصيحين بصوت مزمجر
تقولين: آآآه منكم
اصلبوا الأجساد
مع الأهواء والشهوات
واتبعوني إلى ملكوت السماوات
إلى الروح المطلق في الأعالي
ترِثون المحبّة والسلام عندي
وتستحمّون بالفرح والسعادة عندي
وتنعمون براحة البال عندي
وبهدوء النفس آمنين عندي
ترثون وترثون مني
حفظ الأمانة مني
ودوام الإخلاص والوفاء مني
أخلاق صوفية الروح
بطقوسها تقول:
بالروح نحيى ونعيش
وبها نقاوم كل مجد مغشوش
ينهار أمام حفريات التأريخ
والتاريخ المدسوس...
في مجد الروح انكشاف
عن طقوس السحر الأسود
الموصوف
انكشاف وانكشاف
عن عبادة الجسد والأصنام
وهذيان السكر والعربدة
وعن نفاق الفسق والدعارة...
بالروح نحيى ونعيش
وبها نقاوم كل مجد مغشوش
ينهار أمام أركيولوجيا الحرب
في جلبابه المسموم
يكشف عن التعصب
والانقسام المهووس
ويفصح عن التحزّب والنزاع
ويعرّي عن الغيرة والحسّاد...
أيتها الروح أنت
ولدت في أحضان الفلسفة
جنيناً وطفلاً ترعرعت
بين وديانها وهضابها شخت
أزليّة أنت مشعّة أنت
في دروب الفلسفة واختراقها
تهت وانفتحت على نوافذها
على كل الاتجاهات والبنيات
مثالية، مادية، وجودية
تستنشقين منها عبير التناقضات
والحجج والمحاجّات
والجدال والمجادلات
ولا تريدين أن ترقدي
إلى أبد الآبدين في سكون سرمدي
على مخدّة حقيقة واحدة
مطلقة وأزليّة الثبات...
في مثالية الفلسفات أنت
روح وروح خالصة...
أثيرية الوجود أنت
عارية الكثافة أنت
تعانق الجسد في انفصال عنه
وتتعالين فوق تضاريس الشهوة
تئنين في قبضة الإعصار
أنت إعصار شبقيّة الجسد
المحموم تئنين وتبكين
في شبقية اللذة المجنونة تتألمين
تسابقين الرياح لتتطلّعين
إلى أعالي النورانية
بسلطتك تسعين لترويض
شبقيّة الجسد المعفّن
نحو العفّة تتسابقين
مزمجرة وصارخة
اسلكوا في الروح طريقاً
وعندئذ شهوة الجسد تفنى
سعياً وفناء أبديا
بلا أمل إدراكيّ
الروح تفني وجودها
في روحانية الكون تسلّي ذاتها
وهذان المتقابلان المتناقضان
يصارع أحدهما الآخر بسيفين
في وحدة مركبة بجدليتين
بطعم وذوق هيجلي جديدين...
أيتها الروح أنت
في الفلسفة المثالية أنت
روح في مقابل جسد فانٍ
جسد لا يفعل ولا يحقق
سعادة ما يريد وما يرغب
خاضع لأمر الروح إذعاناً
وليس ذلك في حال عبودية أمراً
بل لمبعث الخير والنور سيراً
نحو الروح عناقاً مطلقاً...
أنت أيتها الروح أنت
في الفلسفات المثالية أنت
في الإنسان حقيقة مفكّرة
عشقك أرسطو وديكارت ولابنتز
إلى حد الجنون جعلوك
أنت للتمثّل وللإدراك فاعلة
بقوانينك أنت متعارضة
مناقضة للمادة بأثيرك
وبطبيعة روحك تتعالين
على الطبيعة بكيانك
وبخاصيّة روحك تقاومين
شبقيّة الجسد بعفّتك
أنت في الإنسان روح مدركة
انت نفس وعقل للإدراك...
أنت أيتها الروح أنت
في أخلاقية الفلسفة الكانطيّة
أنت عقل أخلاقي عملي
يكبح جماح العقل المندفع
يكبّل العقل المنطقي
بسلاسل الفضيلة المقدسة
ومشاعر الإنسانية المتأججة
في لذّة العقل الكبرى أنت
خمرية الروح تتمايلين
بين مُدام العشق والغرام
بوصال اللاهوت
في سيرورة الأزل الممنوع
وعناق ميتافيزيقيا الوجود
في درجات الفناء المخلوق
تنزل من نورانيات السماء
إلى الاستغراق في شبقية الوجود
تئنين من دناسة الجسد
فتحنّين إلى أعالي السماء
في سراديب الإشراق
والاستبصار
وفي الأثير الشفاف
يكشف عن معاناة الروح
في أسفل الوجود
روحي بروحانيتك مزدانة
بومضات الانفعال
والاستغراق والإيحاء...
أعشقك أيتها الخمرية
خمرية الروح في الوجدان
وفي لذة العقل الولهان
في قدسيّة الصمت الموحش
أجالس شبح الروح
أحاورها وتحاورني
بلغة الحجر والحديد
لكنها لا تفهمني ...
أنا الغارق في جوهر الماديات
وفي شبقية الشهوات
أسعى لأن أخيط بيننا
خيط التواصل والتماهي
فتنفلتين من يدي
كسيل نهر من عال
تتوالى ألوان أثوابك
في كل أشكال الموضات
والتمويهات وجودك
وفي سراديب التوليفات
والتمزّقات
تبني جبالاً من المعاناة
في عبثيّة الوجود
وفي عبثيّة الوجدان
وفي تناقض المشاعر
في لون الحبّ
وفي لون الكراهية
وفي لون السلم والسلام
ولون الحرب والدمار...